مأساة عمرو في غزة- صلاة، نزوح، وموت في أرض مفتوحة.

في أتون الأحداث المأساوية التي عصفت بغزة، فقد أكثر من 13 ألف طفل أرواحهم البريئة، ومن بين هؤلاء الضحايا كان عمرو عبدالله، شابٌ يافعٌ طموحٌ، قضى نحبه في ظلّ ظروفٍ مروعة.
في فجر اليوم المشؤوم الذي أزهقت فيه روح عمرو، استيقظ قبل بزوغ الفجر، امتثالًا لشعائر شهر رمضان المبارك، ليؤدي صلاة الفجر مع والده ووالدته وشقيقيه وعمته، في حقلٍ مترامي الأطراف بجنوب غزة. توجهوا إلى الله بالدعاء والتضرع: "إياك نعبد وإياك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم، غير المغضوب عليهم ولا الضالين".
ساد الظلام الدامس، وعادوا أدراجهم إلى خيامهم المتواضعة. تبدلت حياتهم رأسًا على عقب، فقد تلاشت ذكريات قريتهم الحبيبة، القرارة، والمنزل الذي شُيّد بمدخرات والد عمرو، التي جمعها على مدار ثلاثين عامًا قضاها في العمل بالخليج، بالإضافة إلى بساتينهم الغنّاء ومدرستهم التي شهدت تفوقه ومسجدهم المحلي، وحتى المتحف الثقافي للمدينة، الذي يضم قطعًا أثرية نفيسة تعود إلى 4000 سنة قبل الميلاد.
تحولت كل هذه المعالم إلى ركامٍ وأنقاض، شاهدة على فظاعة الأحداث.
أطلال منزل عمرو
كان عمرو، ذو السبعة عشر ربيعًا، يستعد للتخرج من المرحلة الثانوية في هذا العام، لكن إغلاق المدارس في شهر تشرين الأول/نوفمبر حال دون تحقيق حلمه. كان يطمح في الالتحاق بالجامعة، ربما لدراسة الهندسة على غرار والده، الذي كان شخصية اجتماعية مرموقة. كان عمرو طالبًا متفوقًا وموهوبًا، لكنه وجد نفسه قابعًا في خيمة بـ"منطقة آمنة" مزعومة، سرعان ما اكتشف هو وعائلته أنها ليست كذلك، حيث تعرضت للقصف المتكرر من قبل القوات الإسرائيلية.
لفحهم البرد القارس والمطر الغزير، فاجتمعت العائلة سويًا طلبًا للدفء، لكن الجوع كان ينهش أجسادهم.
يصفه عمه عبدالباسط عبدالله، المقيم في نيوجيرسي، بكلمات مؤثرة: "عندما تذكر اسم عمرو، تشعر وكأنك تتحدث عن القمر. كان شابًا فريدًا من نوعه، وسيمًا، ورائعًا، ولطيفًا".
عمرو في غزة
بدأت الهجمات الإسرائيلية الشرسة في شمال قطاع غزة، ثم اتجهت جنوبًا. في صباح يوم الجمعة الموافق الأول من كانون الأول/ديسمبر، ألقت الطائرات الإسرائيلية المسيّرة منشورات فوق قرية عمرو، تحمل تحذيرات مشؤومة.
جاء في المنشورات: "إلى سكان القرارة وخربة الخزاعة وعبسان وبني سهيلة، يجب عليكم الإخلاء الفوري والتوجه إلى الملاجئ في منطقة رفح. مدينة خان يونس منطقة قتال خطيرة. لقد تم تحذيركم. موقّع من قبل جيش الدفاع الإسرائيلي".
سقوط المنشورات فوق قرية عمرو
تعيش العائلات في غزة معًا، في تجمع للأجيال المتعاقبة. وهذا هو السبب الذي يفسر مقتل العشرات من أفراد العائلة الواحدة في غارة جوية واحدة. نشأ عمرو محاطًا بالأعمام والعمات وأبناء العم، في كنف عائلة متماسكة.
دب الذعر في قلوب القرويين، فبدأ البعض في حزم أمتعتهم على عجل، بينما رفض البعض الآخر مغادرة ديارهم.
أصر أحد أعمام عمرو على البقاء في منزله، بينما توجهت العائلة إلى "المنطقة الآمنة" المزعومة. كان ابنه يعمل طبيبًا في مستشفى ناصر، فغادر المستشفى على الفور ليناشد والده المغادرة. وبعد لحظات قليلة من فراره هو ووالده، تعرض شارعهما للقصف، في مشهدٍ يدمي القلوب.
انتقل عمرو وعائلته للعيش مع أقاربهم في خان يونس، لكن بعد بضعة أيام، تم إسقاط المزيد من المنشورات، التي تطالب الجميع بالتوجه إلى رفح.
فرت عائلة عمرو، وانضم إليهم أقارب من خان يونس، إلى رفح، بحثًا عن ملاذٍ آمن.
لكن رفح كانت بمثابة كابوسٍ مرعب. وجد الفلسطينيون اليائسون أنفسهم يعيشون في العراء، يفترشون الشوارع والأزقة. كان الطعام والماء شحيحين للغاية. اضطرت العائلة للنوم في سيارتهم، في ظل البرد القارس والمطر الغزير، دون وجود بطانيات تقيهم من قسوة الطقس. بحثوا بيأس عن خيمة تأويهم، لكن دون جدوى. عثروا على قطعة قديمة من البلاستيك، فقاموا بتثبيتها بالجزء الخلفي من السيارة، لتوفير منطقة محمية مؤقتة. لم تتوفر حمامات، فكان الناس يقضون حاجتهم على قارعة الطريق.
في غضون أسبوع واحد، نزحوا مرتين، وفقدوا الأمل في العثور على مكان آمن.
تدهورت صحة والد عمرو، الذي يعاني من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم، بشكل ملحوظ. اصطحبته العائلة إلى المستشفى الأوروبي بالقرب من خان يونس، لكن الطبيب أخبرهم أن حالته ناجمة عن سوء التغذية، ونقص الطعام.
قال له الطبيب بأسف: "لا يمكننا التعامل مع وضعك، هناك المزيد من الحالات الحرجة".
يقول عبدالله عن أخيه الأكبر بحسرة: "كان لديه منزل جميل، والآن أصبح بلا مأوى. كان يعرف الجميع في مسقط رأسه، لكنه الآن يعيش في الشارع مع حشود من الغرباء. لا أحد لديه ما يكفي من الطعام، ولا توجد مياه نظيفة، ولا توجد مرافق أو حمامات مناسبة".
قررت العائلة الانتقال مرة أخرى إلى المواصي، التي أعلنتها إسرائيل "منطقة إنسانية". اعتقدوا أنهم سيكونون على الأقل في أرض مفتوحة، بعضها مملوك لعائلاتهم. تضم المنطقة الساحلية، المليئة بالكثبان الرملية، الآن حوالي 380 ألف فلسطيني نازح. وعد الإسرائيليون بتسليم المساعدات الإنسانية الدولية إلى المواصي، لكن القليل منها وصل بالفعل. يجب نقل المياه بالشاحنات، ولا توجد كهرباء.
استهدفت الطائرات الحربية الإسرائيلية مجمعًا سكنيًا في المواصي في شهر كانون الثاني/يناير، حيث كانت تأوي الفرق الطبية وعائلاتهم من لجنة الإنقاذ الدولية والمساعدات الطبية للفلسطينيين، مما أسفر عن إصابة العديد منهم بجروح. كما أطلقت دبابة إسرائيلية النار على منزل في المواصي، كان يحتمي فيه موظفون من منظمة أطباء بلا حدود وعائلاتهم في شهر شباط/فبراير، مما أسفر عن مقتل شخصين وإصابة ستة آخرين.
أقامت عائلة عمرو خيمتين مؤقتتين من أوراق شجرة النخيل وألواح من البلاستيك، لحمايتهم من حرارة الشمس وبرد الليل. كانت الطائرات الإسرائيلية المسيّرة تحلق في الأعلى ليلًا ونهارًا، تراقب تحركاتهم.
في اليوم السابق لمقتله، تمكن عمرو من إجراء اتصال هاتفي نادر، بسبب انقطاع الاتصالات المتكرر، للتحدث إلى أخته في كندا.
استغلت شركة هلا المصرية، التي تعني "مرحبًا" باللغة العربية، الأوضاع المأساوية، وقدمت تصاريح سفر لسكان غزة لدخول مصر مقابل 350 دولارًا، قبل الهجوم الإسرائيلي. ولكن منذ بدء الإبادة الجماعية، رفعت الشركة السعر إلى 5000 دولار للشخص البالغ و2500 دولار للطفل. وفي بعض الأحيان، فرضت ما يصل إلى 10000 دولار للحصول على تصريح سفر.
لدى هلا مكاتب في القاهرة ورفح. وبمجرد دفع المال، الذي تقبله هلا بالدولار الأميركي فقط، يتم تقديم اسم مقدم الطلب إلى السلطات المصرية. قد يستغرق الأمر أسابيع للحصول على تصريح. كان إخراج عائلة عمرو من غزة سيكلف حوالي 25000 دولار، أي ضعف هذا المبلغ إذا شملت عمته الأرملة وثلاثة من أبناء عمومته. لم يكن هذا مبلغًا يمكن لأقارب عمرو في الخارج جمعه بسرعة، لكنهم أطلقوا حملة تبرعات على صفحة GoFundMe، وما زالوا يحاولون جمع ما يكفي من المال.
بمجرد وصول الفلسطينيين إلى مصر، تنتهي صلاحية التصاريح في غضون شهر واحد فقط. يعيش معظم اللاجئين الفلسطينيين في مصر على الأموال التي ترسل إليهم من الخارج.
استيقظ عمرو في الظلام، في أول جمعة من شهر رمضان المبارك. انضم إلى عائلته في صلاة الفجر، وكانت الساعة تشير إلى الخامسة صباحًا.
يصوم المسلمون في النهار خلال شهر رمضان، ثم يأكلون ويشربون بمجرد غروب الشمس وقبل الفجر بوقت قصير. لكن الطعام كان نادرًا جدًا، مجرد القليل من زيت الزيتون مع الزعتر، لم يكن كافيًا لسد رمقهم.
عادوا إلى خيامهم بعد الصلاة، وكان عمرو في الخيمة مع عمته وثلاثة من أبناء عمومته. وفجأة، انفجرت قذيفة بالقرب من الخيمة، وتطايرت الشظايا لتصيب ساق عمته وتجرح أبناء عمومته بجروح خطيرة. حاول عمرو جاهدًا مساعدتهم، لكن قذيفة ثانية انفجرت، ومزقت الشظايا معدة عمرو وخرجت من ظهره.
وقف عمرو، وخرج من الخيمة، ثم انهار على الأرض. ركض أبناء عمومته الأكبر سنًا نحوه، وكان لديهم ما يكفي من البنزين في سيارتهم، وهو الوقود الذي كان نادرًا للغاية، لنقل عمرو إلى مستشفى ناصر، الذي يبعد ثلاثة أميال.
"عمرو، هل أنت بخير؟" سأله أبناء عمومته بقلق بالغ.
"نعم"، أجاب بصوت يئن من الألم.
"عمرو، هل أنت مستيقظ؟" سألوا بعد بضع دقائق، فأجاب بصوت خافت: "نعم".
رفعوه من السيارة، وحملوه إلى ممرات المستشفى المكتظة بالجرحى والمرضى، ووضعوه على الأرض، حيث لفظ أنفاسه الأخيرة.
عمرو والموت
حملوا جثة عمرو مرة أخرى إلى السيارة، وانطلقوا بها إلى مخيم العائلة.
يعرض عم عمرو مقطع فيديو لوالدة عمرو وهي تحتضن جثته، وتذرف الدموع.
"ابني، ابني، ابني الحبيب"، كانت تبكي بحرقة في الفيديو، ويدها اليسرى تمسح وجهه بحنان." "لا أعرف ماذا سأفعل بدونك".
دفنوا عمرًا في قبر مؤقت، بانتظار أن تهدأ الأوضاع ليتمكنوا من دفنه بشكل لائق.
وفي وقت لاحق من تلك الليلة، قصفت القوات الإسرائيلية المنطقة مرة أخرى، مما أسفر عن إصابة وقتل العديد من الفلسطينيين.
تم تدمير الخيمة الفارغة التي كانت تؤوي عائلة عمرو في اليوم السابق، ولم يتبق منها سوى أثر.
